القديس يوحنا ذهبي الفم ,, الحب الإلهي وسقوط الإنسان. هل يقدر الشيطان أن يؤذيك؟!
قد يقول قائل : ألم يؤذي الشيطان أدم ، إذ أفسد كيانه وافقده الفردوس ؟ لا إنما السبب في هذا يكمن في إهمال أدم الذي أصابه الضرر وعدم ضبطه لنفسه ، وعدم جهاده.
فالشيطان الذي استخدم مكائداً قوية كثيرة ضد أيوب لم يقدر أن يخضعه ، فكيف أمكنه بوسيلة أقل أن يسيطر على ادم ، لو لم يغدر أدم بنفسه على نفسه؟!
+ لقد قلنا قبلاً أن الشيطان لا يهزمنا بالقوة أو بسلطان أو بالعنف ، وإلا لدمرت البشرية كلها . وقد أثبتنا هذا من حادثة الخنازير (مت31:8) إذ لم تستطع الشياطين أن تدخل فيها إلا بعد استئذان السيد.
لماذا لا يستعبد الله المحب الشيطان؟
والآن بقي لنا سؤال واحد ... إذاً قد يقول قائل : إن كان الشيطان لا يتغلب علينا جبراً بل بالمكر والخداع أما كان من الأفضل أن يهلك ؟ فإن كان أيوب قد هزم قوة إبليس إلا أن آدم خدع وطرد خارجاً ، فلو أن إبليس قد طرح خارجاً واستقصي بعيداً عن العالم لما سقط أدم وطرد؟ ... لكن إبليس باق الآن وإن كان يغلبه واحد إلا أنه هو يغلب كثيرين.
يصرعه عشرة ، أما هو فيصرع عشرة آلاف . فلو أن الله طرحه خارجاً عن العالم ، لما هلك هؤلاء العشرة ألاف ، ماذا نقول عن هذا ؟!!
1- كرامة الغالبين أعظم من خزي المغلوبين:
أولاً : نقول أن الذين غلبوا إبليس لهم كرامة أفضل بكثير من أولئك المغلوبين حتى ولو كان عدد المغلوبين كبيراً والأوائل قليلين ، إذ يقول (ولد) واحد يتقي الرب خير من ألف منافقين)ابن سيراخ3:16.
2- أذي المغلوبين كسلهم وليس الشيطان:
ثانياً : لو استعبد الشيطان من العالم ، فإن المنتصرين تجرح كرامتهم ، لكن لو ترك الشيطان يحارب فإن الكسالى وذوي البطر لا يتأذون على حساب المتيقظين إنما يتأذون بسبب بطرهم وكسلهم بينما لو استعبد الشيطان عن العالم ، فإن المتيقظين يغبنون على حساب المتهاونين حيث لا تظهر قوتهم ويحرمون من الإكليل.
لعلكم لم تفهموا بعد ما قلته ، لهذا يلزمني أن أكرر القول موضحاً :ـ
لنفرض أن عدواً يصارع اثنين في حلبة المصارعة ، واحد منهما أنهكه النهم وعدم الاستعداد مما جعل قوته تخور ويفقد أعصابه ، أما الأخر فقد كان يقظاً له عادات حسنة يقضي زمانه في التدريب على تدريبات كثيرة في مدرسة المصارعة ، فلو سحب العدو من وسط الحلبة ، من من الاثنين يصيبه الأذى؟ من يكون ضحية؟ الإنسان المتكاسل غير المستعد ، أم الغيور المجاهد كثيراً؟! من الواضح أن هذا الأمر يؤذي الغيور المجاهد ويضايقه لأن المجاهد يغبن بإنسحاب العدو ، أما المتكاسل فلا يصيبه أذي لأن سقوطه سببه تكاسله.
3- تهاون الإنسان جعل الشيطان يدعي} مضللا{.
وهنا أيضاً أتعرض لتوضيح أخر حتى نتعلم أن التراخي والكسل هو الذي يصرع غير المنتبهين وليس إبليس ... إنما هو يسمح لإبليس لكي يفرط في الشر ليس (كأمر طبيعي) بل حسب الاختيار(أي قبولنا شره) فإبليس ليس طبيعياً (إلزامياً) مضر ، إنما كما هو واضح من أسمائه (أنه مجرد مضللا). لقد أساء سمعة الإنسان أمام الله قائلاً(هل مجاناً ينتقي أيوب الله) ولكن أبسط يدك الآن ومس كل ما له فإنه في وجهك يجدف عليك) "أي9:1-11". ولقد ضلل إبليس أيضاً عندما قال(نار الله سقطت من السماء فأحرقت الغنم)"أي16:1". أنه كان يحاول إقناع أيوب بأن. هذه المصائب نازلة عليه من السماء من فوق ، واضعاً العثرات بين السيد الرب وعبده . وهكذا حاول إبليس لكنه فشل!!
أنه في نجاح محاولته مع أدم ، وتصديق أدم لتضليله ينبغي ألا يفهم أن انتصار إبليس وقوته يعود إلي طبيعته بل لكسل الإنسان وإهماله ، لهذا دعي إبليس.
إن التضليل وعدمه ليس أمر طبيعي بل قد يحدث أو لا يتم حدوثه دون أن يصل الأمر إلي درجة (الطبيعية).
إن موضوع الأمور الطبيعية والأمور العارضة ، موضوع يصعب على الكثيرين فهمه ، ولكن هناك من ينصت إلينا بفهم ، إلي هؤلاء نتحدث.
أننا نعرف بأنه ليس اسم من أسمائه أطلق عليه بالطبيعة ، فقد دعي"الشرير". لكن شره ليس أمر طبيعي بل باختياره . لم يكن منذ البداية هكذا ، بل جلب الشر لنفسه . كذلك دعي أيضاً (الجاحد)...
4- هل نستعبد الخليقة الجميلة أيضاً؟
لنترك الحديث عن إبليس الآن وننظر إلي الخليقة ، حتى نعلم أن إبليس ليس هو السبب في آلامنا لو أخذنا منه ، وحتى نعرف أن ضعيفي الإرادة وغير المستعدين والكسالى يسقطون حتى ولو لم يوجد إبليس ويسقطون بأنفسهم في أعماق الشر ...
الكل يعرف ـ كما قلت ـ أن إبليس شرير ، ولكن ماذا تقول عن الخليقة والعجيبة؟! هل الخليقة شريرة أيضاً؟ من هو الشرير والغبي حتى يجرؤ ويدين الخليقة؟!
أن الخليقة جميلة ، وهي علامة حب الله وحكمته وقوته ، لنستمع إلي النبي الذي يتعجب قائلاً (ما أعظم أعمالك يا رب . كلها بحكمة صنعت "مز24:104". وقد مر النبي على الخليقة واحدة تلو الواحدة في دهشة) ولكن أمام حكمة الله غير المنظورة تراجع قائلاً (فإنه بعظم جمال المبروءات يبصر ناظرها على طريق المقايسة)"حك5:13".
ولنستمع إلي بولس الذي يقول(لأن أموره غير المنظورة تري منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية)"رو20:1". فكل شيء من أمور هذه الخليقة ـ تقودنا إلي معرفة الله.
والآن إن رأينا نفس هذه الخليقة الجميلة والعجيبة تصير سبباً لشر الإنسان فهل نلومها إذاً؟! حاشا . بل نلوم أولئك الذين لم يستطيعوا استخدام الدواء استخداماً صائباً.
إذاً متى تصبح الأمور التي تقودنا إلي معرفة الله عله شرنا؟ يقول الرسول ، إن الحكماء (حمقوا في أفكارهم ... وعبدوا المخلوق دون الخالق)"رو21:1-25. لم يأت ذكر إبليس هنا ، بل وضعت أمامنا الخليقة كمعلمة لنا عن حكمة الله ، فكيف صارت علة شر؟! هذا طبعاً لا يرجع إلي طبيعتها بل إلي إهمال الذين لا يحترسون لأنفسهم ، لأنه ماذا يقول؟ هل ننزع الخليقة أيضاً؟!
5- وهل نستعبد أعضاءك أيضاً؟
لنترك الخليقة ونأتي إلي أعضائنا ، فحتى هذه نجدها سبباً في هلاكنا إذاً لم نأخذ حذرنا ، وهذا ليس عن طبيعة الأعضاء بل بسبب تراخينا أيضاً. لقد وهبنا عيوناً نعاين بها الخليقة فنمجد السيد الرب ، ولكن متى أسأنا استخدامها تصير خادمه للزنا.
وقد أعطينا اللسان لنعلم حسناً ، ونسبح الخالق ، فإذا لم نحترز لأنفسنا يصير علة تجديف. وأخذنا الأيدي لنرفعها في الصلوات ، ولكننا إذ لم ننتبه نجدهما يعملان في الطمع والجشع.
ووهبنا الأقدام لتسير في الصلاح ، وبإهمالنا تتسبب في أعمال شريرة ، إن كل الأشياء تؤذي الإنسان الضعيف ، حتى أدوية الخلاص (بالنسبة للرافضين إياها) تسبب الموت ... لا بسبب طبيعة الدواء بل بسبب الضعف.
الله خلق السموات لنعجب من أعماله ونعبد الرب لكن آخرون تركوا الخالق وعبدوا السماء ، وعلة هذا إهمالهم وجمودهم.
6- حتى الصليب عند الهالكين جهالة.
بالتأكيد لا يوجد شيء يؤدي بنا إلي الخلاص أكثر من الصليب لكن هذا الصليب صار جهالة للهالكين (لأن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة ، أما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله)"1كو18:1". ويقول أيضاً ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة)"1كو23:1".
7- والرسل صاروا رائحة موت لكثيرين.
من يقدر أن يعلم أفضل من بولس والرسل؟! لكنهم صاروا رائحة موت لكثيرين .
إذ يقول الرسول بولس(هؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة)"2كو16:2". إن الضعيف (الرافض) يؤذيه حتى الرسول بولس ، وأما القوي لا يقدر أن يؤديه حتى إبليس؟!
8- وفي المسيح عثر كثيرون
لننتقل بحديثنا إلي يسوع المسيح نفسه. من يقدر أن يقيم خلاصه؟! ما أكثر النفع الذي جنيناه من حضوره معنا!! لكن هذا المجيء المبارك بعينه صار عله دينونة لكثيرين (فقال يسوع لدينونة أتيت أنا إلي هذا العالم حتى يصير الذين لا يبصرون ويعمي الذين يبصرون)"يو39:9".
ماذا نقول يا أخوتي : هل يصير النور سبباً في العمى ؟!! ليس النور بل الشر الذي ملأ عيون النفس فحجب عنها معاينة النور. وهكذا نري الضعيف (المصر على شره) يؤذيه كل شيء ، أما القوي فينتفع من كل أمر.
9- إستفد من إبليس.
حتى إبليس يمكن أن يكون سبب نفع لنا إن فهمناه ... وهذا واضح في حالة أيوب . ويمكن أن نتعلم هذا أيضاً من بولس إذ يكتب بخصوص الزاني قائلاً (أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي يخلص الروح "1كو5:5". أنظروا حتى الشيطان قد صار سبب خلاص ، لا بطبيعته ولكن بمهارة الرسول كالطبيب الذي يحضر حية ويستخرج منها دواء.
فلنتعلم أيضاً أن إبليس ليس هو علة خلاص ، لكن قدماه تسرعان نحو هلاك الجنس البشري ... إذ يقول الرسول في رسالته الثانية لأهل كورنثوس عن الزاني عينه(أطلب أن تمكنوا له المحبة ... لئلا يطمع فينا الشيطان لأننا لا نجهل أفكاره)"2كو8:2-11".
وهنا يعتبر الرسول بولس الشيطان كمنفذ لأحكام الله ... إذ قال الله للشيطان بخصوص أيوب(ها هو في يدك ، ولكن احفظ نفسه"أي1،5:2".
هكذا أعطي الرب حدوداً لإبليس لا يتعداها ، حتى لا يبتلعه بغير حياء .. لذلك لا نخاف الشيطان حتى ولو كان روحاً بغر جسد ، فليس شيء أضعف منه ذاك الذي جاء بطريقه ما ولو كان غير جسدي ، ولا شيء أقوي من الشجاع ولو كان يحمل جسداً قابلاً للموت!!
لست أبرئ الشيطان.
لم أنطق بهذه الأمور لأبرئ الشيطان من الذنب لكن لكي أحذركم من الكسل . فإن رغبة الشيطان أن نلقي باللوم عليه في أخطائنا وبهذا نغرق في كل صنوف الشر ونزيد على أنفسنا العقوبة ولأننا العفو إذ ننسب العلة إليه(بغير توبة منا).
حواء لم تنل شيئاً (من العفو) ليتنا نحن لا نصنع ما فعلته بل لنعرف أنفسنا ، ولنعرف جراحاتنا وعندئذ يمكننا أن نستخدم الأدوية ، لأن من يعرف مرضه لا يبالي بضعفه.
أننا نخطئ كثيراً ن هذا أعرفه جيداً ، لأننا جميعاً مستحقون العقوبة لكننا لا نحرم من العفو ، ولا نستبعد عن التوبة ، إذ لا نزال قائمين كمن في مسرح للمصارعة وفي صراع للتوبة.
لماذا لم يخدعكم الشيطان؟
لقد بدأنا أول أمس في الوعظ بخصوص (الشيطان)... وبينما كنا نشرع في الوعظ ، ذهب البعض إلي البعض إلي المسارح يشاهدون عروض الشيطان . لقد كانت لهم شركة في الأغاني الخليعة ، أما أنتم فكنتم تشتركون في الموسيقي الروحية . كانوا يأكلون من نفايات الشيطان ، أما انتم فكنتم تتغذون بدسم روحي.
أسألكم من الذي خدعهم؟ من الذي فصلهم عن القطيع المقدس؟ هل الشيطان هو الذي خدعهم؟! فلماذا لم يخدعكم أنتم؟! مع إنكم وإياهم بشر متشابهون ، أقصد لكم طبيعة واحدة ... لكم نفس(روح) مشابهه وغرائز (ميول) واحدة بقدر ما خصتكم بذلك الطبيعة...
ملحوظة: اختلاف الهدف يؤدي إلي الإنشطار فشطر فوق وشطر تحت الخداع
إذاً كيف لم يكن الكل في مكان واحد ، إلا بسبب اختلاف الهدف لهذا السبب بحق هم صاروا تحت الخداع ، وأما أنت ففوقه.
إختلاف الهدف : لست أقول هذا لكي أبرئ الشيطان من الاتهام ، بل اشتاق بغيرة أن تتحرروا من الخطايا .
طبيعة الشر: فالشيطان شرير ، وأنا أسلم بهذا ، لكنه شرير بالنسبة لذاته وليس بالنسبة لنا ما دمنا حذرين ، لأن هكذا هي طبيعة الشر ، أنها مهلكة للذين يتمسكون بها وحدهم ...
إبكموهم بالقدوة الحسنة:
لهذا هل تستخدم هذه الوسيلة للبرهان ، فإن رأيت إنساناً يعيش في شر ويظهر كل صنوف الآثام ملقياً باللوم على العناية الإلهية ، قائلاً بأن هذا مصادفة بحكم القضاء والقدر أو بسبب استبداد الشياطين وأن الله وهبنا هذه الطبيعة ... وكل الأمور التي ينزع بها اللوم عن ذاته ليلقي بها على الخالق المعتني بالكل ، عندئذ أبكم فمه لا بالكلام بل بالعمل ، مظهراً للعبد رفيقك الحياة في الفضيلة والاحتمال. أنه لا حاجة للأحاديث الطويلة أو عمل خطة معقدة ولا حتى إلي قياسات منطقية .
بل بالأعمال يتحقق البرهان.
قد تقول أنك عبد ، وهو عبد مثلك ، أنت إنسان وهو أيضاً إنسان أنك تعيش في نفس العالم وتتنعم بنفس الأمور التي هي تحت السماء فكيف تعيش أنت في الشر وأما هو فيحيا في الفضيلة؟!