كتاب : "التوبة والاعتـراف"
تقديم نيافة الأنبا أثناسيوس
أسقف بني مزار والبهنسا
فرحتُ جدًّا عندما طُلب منِّي تقديم هذا الكتاب: ”التوبة والاعتـراف“
لأهميَّتهما في حياة الإنسان المسيحي,
وشكرًا للأب المُتـرجِم الذي أعطاني أن أُوضِّح المسيحيَّة الإنجيليَّة في الكنيسة الأرثوذكسيَّة.
كثير من المسيحيِّين يظنُّون أنَّهم خلصوا بموت السيِّد المسيح وقيامته,
ونالوا الحياة الأبديَّة بإيمانهم بذلك فقط,
وهذا وهم, لأنَّه إيمانٌ نظريٌّ.
ولكن الإنسان يخطئ,
ولا شكَّ في ذلك بسبب طبيعة الجسد وشهوة النفس,
فـ«الإنسان مولود المرأة» (أي14: 1) لا يتـزكَّى أمامك,
و”ليس إنسان بلا خطيَّة,
ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض“ (أوشية الراقدين ـ القدَّاس الإلهي),
ويقول القدِّيس يوحنا: «إن قلنا إنَّه ليس لنا خطيَّة نُضلُّ أنفسنا وليس الحقُّ فينا...
إن قُلنا إنَّنا لم نخطئ نجعله كاذبًا وكلمته ليست فينا» (1يو1: 8و10).
ولكن لا ينبغي أن يُزعجنا هذا,
فالله فاتح أحضانه ويعرف أنَّنا تراب ورماد وكثيرًا ما نخطئ,
ولهذا فهو يقول لنا: ”لم أتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة“ (مت9: 13),
إذًا هو يدعونا إلى التوبة.
فخلاصنا إذًا متوقِّف على جهادنا ضد الخطيَّة إلى النَفَس الأخير,
وينصح القدِّيس بولس تلميذه تيموثاوس بقوله:
«جاهد الجهاد الحسن, وأمسك بالحياة الأبديَّة التي إليها دُعيت» (1تي6: 12).
وهنا مواجهة صريحة ضدَّ قوى الشر,
فلتحارب لكي لا تسقط,
وإن سقطتَ قُم واعتـرف بخطاياك وتُب:
«وإلاَّ فإنِّي آتيكَ عن قريب وأُزحزح منارتك من مكانها إن لم تتُب» (رؤ2: 5),
ويقول السيِّد المسيح: «إن لم تتوبوا فجميعكم... تهلكون» (لو13: 3و5).
ولكن التوبة ليست فقط الكف عن عمل الخطيَّة بالفعل,
لأنَّه يسبق الفعل الخاطئ,
الفكر الخاطئ والشهوة الرديَّة وقبول الحواس للدنس:
«ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيَّة, والخطيَّة إذا كملت تنتج موتًا» (يع1: 15).
ويقول قداسة البابا شنوده: ”التوبة الحقيقيَّة هي كراهية الخطيَّة“,
والقدِّيس بولس يطلب من أهل رومية أن يُقدِّموا أعضاءهم عبيدًا للبر للقداسة (رو6: 19).
إذن نحن نحتاج إلى أن نحيا بالروح ولا نُكمِّل شهوة الجسد إلى النفس الأخير.
يقول إشعياء النبي: «اغتسِلوا, تنقَّوْا, اعزِلوا شرَّ أفعالكم من أمام عينيَّ,
كُفُّوا عن فعل الشر... إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضُّ كالثلج,
وإن كانت حمراء كالدوديِّ تصير كالصوف» (إش1: 16و18).
وهذا كله يتمُّ بغفران الخطايا بسبب امتداد ذبيحة المسيح الكفَّاريَّة,
لأنَّ: «دم يسوع ابنه يُطهِّرنا من كل خطيَّة» (1يو1: 7).
قال الرب لتلاميذه: «لا أترككم يتامى, إنِّي آتي إليكم» (يو14: 18),
وأيضًا: «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم مُعزِّيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد, روح الحق» (يو14: 16و17).
هذا هو الروح القُدُس الذي أعطاه الرب للتلاميذ ليكرزوا ببشارة الملكوت وليغفروا خطايا الشعب,
لذلك أعطاهم سلطانًا ليُقدِّموا للمؤمنين غفرانًا لخطاياهم وتثبيتًا لإيمانهم المسيحي,
وذلك بقوله للتلاميذ: «كما أرسلني الآب أُرسلكم أنا,
ولمَّا قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القُدُس,
من غفرتم خطاياه تُغفَر له, ومن أمسكتُم خطاياه أُمسِكَت» (يو20: 21- 23).
وبذلك أصبح الرسل حاملين سلطانًا ليكرزوا ويغفروا خطايا الشعب الذي يدخل الإيمان المسيحي,
وهذا السلطان ليس من الرسل بل بسلطان الروح القُدُس.
الخاطئ يحتاج إلى تقديم توبة واعتـراف عن خطاياه,
لينال عنها حِلاًّ يؤهِّله أن يتناول باستحقاق.
من له هذا السلطان بعد صعود الرب إلاَّ الكاهن المُشرطَن قانونيًّا؟
إذًا علينا أن نلجأ إلى الكاهن لنُقدِّم توبة أمام الروح القُدُس الذي فيه: (روح الله),
وهو يُعطي حِلاًّ بالروح القُدُس أيضًا,
لأنَّ السيِّد المسيح بروحه هو الشفيع الوحيد لنا في السماء:
«إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب,
يسوع المسيح البار,
وهو كفَّارة لخطايانا, ليس خطايانا فقط,
بل لخطايا كل العالَم أيضًا» (1يو2: 1و2).
يبقى السؤال: كيف أعتـرف؟
أولاً: أنا أعتـرف على روح الله الذي ناله الأب الكاهن حامل الأسرار.
ثانيًا: بالنسبة للخطايا: ليست الفعليَّة فقط بل التي يسبقها خطايا فكريَّة وشهوات نفسيَّة وقلبيَّة,
فهذه كلها من البداية شركة مع الشرِّير والعالم,
ويقول الكتاب بصددها: «إن أحبَّ أحدٌ العالَم فليست فيه محبَّة الآب» (1يو2: 15),
كما يقول في موضع آخَر:
«أَمَا تَعلَمون أنَّ محبَّة العالَم عداوة لله؟ فمن أراد أن يكون مُحبًّا للعالَم, فقد صار عدوًّا لله» (يع4:4),
وأيضًا: «كل ما في العالَم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة, ليس من الآب بل من العالَم» (1يو2: 16),
ويقول القدِّيس بولس الرسول: «أيُّ اتِّفاق للمسيح مع بليعال (الشيطان)؟» (2كو6: 15),
وهو يطلب تقديس ما يبزغ من العقل والقلب كليهما للرب: «مُستأسِرين كل فكر إلى طاعة المسيح» (2كو10: 5).
فالقداسة أمرٌ حتمي ومطلوب: «كونوا قدِّيسين في كل سيرة, لأنَّه مكتوب كونوا قدِّيسين لأنِّي أنا قدُّوس» (1بط1: 15و16),
هذه القداسة التي : «بدونها لن يرى أحد الرب» (عب12: 14).
هذا الكتاب أيُّها القارئ العزيز هو رسم إنجيلي للطريق إلى السماء,
اِتبَع المسيح ,
واقتفِ أثر خطواته (1بط2: 21) كما هو واضح إنحيليًّا في ممارسة سر التوبة والاعتـراف على روح الله الذي في الأب الكاهن حامل أسرار الله,
لأجل غفران خطاياك,
فهو خادم أسرار الله بروحه الذي فيه,
لبنيان جسد المسيح الذي هو نحن.
أسأل الله أن يجعل هذا الكتاب بركة لكثيرين,
وعودة إلى حظيرة المسيح الأولى والحقيقيَّة,
الكنيسة الأرثوذكسيَّة.
بشفاعة القدِّيسة مريم أم المُخلِّص,
والقدِّيس مار مرقس الطاهر,
والقدِّيس الأنبا موسى الأسود القوي التائب,
وجميع القدِّيسين التائبين: أغسطينوس وبائيسة ومريم المصريَّة...
وبصلوات قداسة أبينا المُعظَّم البابا شنوده الثالث,
أدام المسيح حياته لنا وللكنيسة,
ولإلهنا المجد إلى الأبد آمين.
بنعمة الله
أثناسيوس
أسقف بني مزار والبهنسا
عيد استشهاد القدِّيس الأنبا موسى القوي
24 بؤونه1722ش
أول يوليو 2006 م